*
تعريف الزكاة
الزكاة لغة: النماء والتطهير، بمعنى: الزيادة والطهارة، يُقال: زكا الزرعُ إذا نَمَى وزَادَ وكَثُر رِيعُه، وزَكتِ النفقة إذا بُورِك فيها.
ولفْظُ الزكاة يدلُّ على الطهارة التي هي سببُ النمو والزيادة؛ فإنَّ الزرعَ لا ينمو إلاَّ إذا خَلُص من الدَّغَل.
وهي شرعًا: حقٌّ معلوم واجبٌ في مالٍ بشروط، لطائفة مُعيَّنة، في وقت مُحدَّد.
حكم الزكاة ومنزلتها من الدِّين:
الزكاة فريضةٌ عظيمة من فرائض الإسلام، وهي الركن الثالث من أركانه، فهي آكدُ الأركان بعد الشهادتين والصلاة.
وقد تَظاهرتْ على وجوبها دلائلُ الكتاب والسُّنة والإجماع؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 56]، وثبتَ في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي ﷺ قال: "بُني الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" أخرجه البخاري (8).
وأجمع المسلمون على رُكنيَّتها وفرضيَّتها، وصار أمرًا مقطوعًا به، معلومًا من الدِّين بالضرورة؛ حيث يُستغنَى عن الاحتجاج له.
فمَن أنْكَر وجوبها مع عِلْمه بها، فهو كافر خارجٌ عن الإسلام، ومَن أقرَّ بها ولكنْ بَخِل بها أو انتقصَ منها، فهو من الظالمين المستحقِّين للعقوبة والنَّكال بما يردعه ويزجر غيره عن البُخْل بها، وتُؤخذ منه قَهْرًا ولو بالمقاتَلة.
وقد أكثَرَ تعالى من ذِكْر الزكاة في كتابه، وقَرَنها بالصلاة فيما لا يقلُّ عن ثمانين موضعًا، وكفَى بذلك تنبيهًا على عِظَم شأنها من الدِّين، وتأكيد اتِّصالها بالصلاة؛ حتى روي عن النبي ﷺ أنه قال: "مَن لَم يُزكِّ، فلا صلاة له" أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/ 127).
الأموال التي تجب فيها الزكاة:
فُرضت الزكاة على الأغنياء في أموالهم النامية التي تحتمل المواساة وهي نوعان:
أحدهما: نوع يُعتبر فيه الحول على نصاب تامٍّ، وهو: الأثمان، والماشية السائمة التي تُتَّخَذ للدرِّ والنَّسْل، وتَرْعَى أكثر الحول، وعُروض التجارة؛ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى: الحولُ شرطٌ في وجوب الزكاة في العين - يعني: الذهب والفضة وما يقوم مقامَها من الأوراق النقديَّة المعاصرة - والماشية، وعُروض التجارة.
كما كان النبي ﷺ يبعث عُمَّاله على الصَّدَقة كلَّ عام، وعملَ بذلك خلفاؤه الراشدون؛ لِمَا عَلِموه من سُنَّته، وقال البيهقي رحمه الله: المعتمد في اشتراط الحول على الآثار الصحيحة عن أبي بكر وعثمان وابن عمر وغيرهم.
قلت: وقد رُويتْ أحاديثُ عن النبي ﷺ في ذلك، منها: حديث عائشة رضي الله عنها: "لا زكاةَ في مالٍ حتى يحولَ عليه الحول" أخرجه ابن ماجه (1792).
ومنها حديث ابن عمر: "مَن استفاد مالاً، فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول" أخرجه الترمذي (631).
الثاني: ما لا يُعتَبر فيه الحول: وهو ما تجب فيه الزكاة بمجرَّد وجوده؛ كالحبوب والثمار والمعدن والركاز، فلا يشترط فيها مضيُّ الحول؛ لأنها نماءٌ في نفسها، تؤخَذ منها الزكاة عند وجودها، ثم لا تجب فيها مرَّة أخرى لعدم إرصادها للنماء؛ قال تعالى: ﴿ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141]، والمعدن والركاز معطوفان عليه.
الحكمة من مشروعية الزكاة
تشريع الزكاة من محاسن الدِّين الإسلامي الحنيف، الذي جاء بكلِّ ما من شأْنه غرْس المودَّة والرحمة بين المؤمنين، وتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع المسلم، وإيجاب أسباب التراحُم والتعاطُف والتعاون على البِرِّ والتقوى، وقطْع دابرِ كلِّ شرٍّ يُهَدِّد الفضيلة والأمْن والرَّخَاء، فاشتملتْ تشريعاته الحكيمة على تقوية الإخاء بين مُعْتَنِقيه وتأليف القلوب، ونحو ذلك من مقومات سعادة الدنيا والآخرة، وصدَق الله العظيم إذ يقول عن نفسه: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83]، ويقول: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185]، ويقول: ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 117].
فشرَعَ الله تعالى الزكاة؛ لِمَا يترتَّب على إعطائها لأهْلها من المصالح العظيمة، والعواقب الحميدة، والآثار المبارَكة في الدنيا والآخرة؛ للمتصدِّق وللآخِذ، ومن ذلك:
1- أنَّ الزكاة دليلٌ على صحَّة إيمان المزكِّي، وعلامة على تصديقه بأحكام الله، وقَبوله له، ورجائه لِمَا وعَد الله المطيعين المنفقين من الثَّواب العظيم والأجْر الكريم؛ ولذا قال النبي ﷺ: "والصَّدَقة برهان"أخرجه مسلم (223).
2- أنها تزكِّي صاحبها، فتطهِّره من دَنَس الأخلاق الرذيلة - كالبخل والشُّح - وتُنقِّيه من آثام الذنوب، وتَصْرِف عنه عقوباتها؛ فإنها من أعظم مُوجِبات مَحْو السيِّئات، وحطِّ الأوزار، ومَغفرة الذنوب، وصَرْف العقوبات؛ قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ [التوبة: 103].
ورُوِي عن النبي ﷺ أنَّه قال: "تُخْرِجُ الزكاة من مالك؛ فإنها طُهرة تطهِّرك"أخرجه أحمد في المسند (3/ 136).
3- ومَن أدَّاها طيِّبة بها نفسُه، فقد اهتدى، فيزيده الله تعالى إيمانًا وهُدًى؛ قال تعالى: ﴿ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ﴾ [مريم: 76]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].
فطاعة الله تعالى بإيتاء الزكاة من أعظم أسباب الهدى والانتفاع بالقرآن؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54].
وقد شَهِد الله تعالى للمنفقين بالهدى والفلاح، فقال تعالى في وصْفِهم: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 2 - 5]، فأداؤها من أعظم أسباب الهدى، وأظهر صفات أولي التُّقَى، الذين ينتفعون بالقرآن، ويَهتدون به أكملَ الاهتداء.
4- والصدقة من أعظم أسباب قَضاء الحوائج، وتفريج الكُربات، والسَّتر في الدنيا ويوم القيامة؛ لِمَا فيها من قضاء حاجة المحتاجين، وتفريج كُربات المكروبين، والتيسير على المعْسِرين، فإنَّ الجزاء من جِنْس العمل، وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "مَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربة، فرَّج الله عنه بها كُربة من كُرب يوم القيامة، ومَن سَتَر مسلمًا، سَتَره الله يوم القيامة" أخرجه البخاري (2442).
وفي رواية مسلم قال ﷺ: "ومَن يسَّر على مُعْسِر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن سَتَر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"أخرجه مسلم (2699)، وقال ﷺ: "إنَّما تُنصرون وتُرْزقون بضعفائكم" أخرجه أبو داود (2594).
5- والمتصدِّق ابتغاء مَرْضاة الله تعالى يفوز بثناء الله تعالى وما وَعَد به المتصدِّقين من الأجْر العظيم، وانتفاء الخوف والحزن؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274].
6- والزكاة من أعظم أسباب رحمة الله للعبد في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 56].
وقال تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].
وفي الصحيح عن النبي ﷺ: "مَن لا يَرْحم الناس لا يَرحمه الله" أخرجه مسلم (2319).
7- والمؤمنون المتصدِّقون موعودون بالجنَّة وما فيها من النعيم المقِيم والرضوان العظيم؛ قال تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 71، 72].
بل وعَد الله تعالى من أثْنَى عليهم بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 4 - 11].
فيرثون من الْجِنان أعلاها، وهو الفردوس، جَعَلنا الله وإيَّاكم من أهْلها ووالدينا، وأهْلينا وذُرِّيَّاتنا، وهو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجَّر أنهار الجنة، وسقفُه عرشُ الرحمن، فهنيئًا لِمَن فازَ بذلك، وتبًّا لمن بَخِل بالزكاة فخَسِر ذلك؛ ﴿ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ [البقرة: 86]، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].
8- وفي إخراج الزكاة تطهيرُ المال من حقوق الْخَلق فيه، وخاصَّة ضعفاءهم ومساكينهم، ونحوهم ممَّن لهم حقٌّ فيه من أهل الزكاة، وذلك من أسباب ذهاب الآفات عنه وحُلول البركة فيه، وبذلك ينمو وينتفع به صاحبه، ويذهب عنه شرُّه، روي عن النبي ﷺ أنه قال: "من أدَّى زكاة ماله، فقد ذَهَب عنه شرُّه"أخرجه الهيثمي (63/3).
وروي عنه ﷺ أنه قال: "حصِّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة" أخرجه الطبراني في الكبير (258/10).
9- زيادة المال وتنميته؛ فإنَّ الصدقة لا تنقص المال بل تَزيده، بأنْ يُخلف الله على المتصدِّق خيرًا مما أنفَقَ، ويُبارِك له فيما أبْقَى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "قال الله تعالى: أنْفِقْ يا ابن آدم، يُنْفَق عليك"أخرجه البخاري (4684).
وفي الصحيح أيضًا عن النبي ﷺ أنه قال: "ما نقصتْ صدقة من مالٍ " أخرجه مسلم (2588).
10- وهي أيضًا تزكِّي الفقراء والمساكين؛ بسدِّ حاجتهم وإغنائهم عن ذُلِّ السؤال، والتطلُّع إلى ما في أيدي الْخَلق، وفي ذلك من صيانة وجوههم، وإعفاء نفوسهم، وحِفْظ كرامتهم، وإعانتهم على طاعة الله تعالى ما هو أعظم أنواع الإحسان إلى أولئك المساكين، وقد أخْبَرَ الله سبحانه عن نفسه بما يرغِّب كلَّ من عَرَف فضْلَ الإحسان؛ لعِظَم موقعه عند الله، وعِظَم ثوابه يوم لقائه، فقال تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ [يوسف: 88]، وقال: ﴿ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56].
11- وفي إعطاء العاملين على الزكاة منها - إذا لَم يكنْ لهم راتبٌ أو أُجرة من بيت المال - كفايةٌ لهم ولأُسَرهم مدَّة قيامهم بِجِبَايتها من الناس وصَرْفها لمستحقِّيها، ففي ذلك التعاون على البرِّ والتقوى؛ لِمَا في إعطائهم منها من إعانتهم على الخير، وتشجيعهم على الاستمرار على هذا العمل؛ ليعينوا إخوانَهم الفقراء في إيصالهم ما فرَض الله لهم، وتحصيل حقوقهم، دون أنْ تتطلَّع نفوسُ العاملين عليها إلى الخيانة فيها، وسوء التصرُّف فيها.
12- وفي إعطاء الزكاة للمؤلَّفة قلوبُهم ترغيبُهم في الإسلام، وتحبيبه إليهم، وتقوية ما في قلوبهم من الإيمان، أو كفّ شرِّهم عن المسلمين، وإيصال الدعوة إلى مَن لَدَيهم من المستضعَفين.
13- وفي إعطاء الزكاة للغارمين نوعٌ من التخفيف عنهم من همِّ الديون بالليل، وتحريرهم من ذُلِّها بالنهار؛ فإنَّ الدَّيْن همٌّ بالليل وذُلٌّ بالنهار، (ومَن لا يَرحم الناس، لا يرحمه الله)، فليحتسب أصحابُ الأموال أن يبذلوا مما آتاهم الله من ماله لهؤلاء المساكين؛ فإن ذلك من أعظم القُرَب، ولعلَّ من ثوابه العاجل أن يُعَافيك الله من بَلْوى كَثَرة الديون وقَهْر الغُرَماء.
14- تجهيز المقاتلين في سبيل الله، وإعداد ما يَلزم من العتاد لقتال أعداء الله؛ لنَشْر الإسلام بين الأُمم والدِّفاع عن حياضِه في سائر الأقطار، وكفِّ الظلم ودَفْع العُدوان، وقطْع دابر الفِتَن؛ ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 193]، فتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السُّفلى.
15- والزكاة إسعاف لابن السبيل - إذا انقطَعَ من النفقة لنفادٍ أو سرقة أو ضَيَاع حماله - ففيها إحسانٌ إليه، ومواساة له في حال غُربته، والجزاء على الله الذي أوصى بالإحسان إليه، وأخبَرَ أنَّه لا يُضيع أجْرَ المحسنين، ومن رَحِم مسلمًا في موقف ونصره فيه، قيَّض الله له مَن يَرحمه وينصره في موقفٍ مثله لو قدِّر له الوقوع فيه، فإن البرَّ لا يَبْلى؛ بل يَجزي الله عليه الجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة.
فشُرِعتِ الزكاة طُهرةً للشخص المتصدِّق من سيِّئات أخلاقه وآثامه، وشُكرًا للنعمة وقَيْدًا لها، وحِفظًا للأموال، ودفعًا للآفات وأسباب النقْص وموجِبات التَّلَف عنها، وتنمية للأموال وتثميرًا لها، فهي حِرزُها الحصين، وحارسها الأمين، وجالبة البركة إليها.
وهي من أعظم موجِبات الحسنات، وسُلَّم الوصول إلى أعالي الدرجات في الجنات، وناهيك بعظيم أثَرها الجميل على الفقراء والمساكين، وسائر مَن جعَلَ الله لهم نصيبًا منها في كتابه المبين.
وكم لها من الآثار المبارَكة على عموم مجتمعات المسلمين، فما أجملَ منافعَها العاجلة والآجلة! وما أجلَّ عواقبها الطيبة على المسلمين في الدنيا والآخرة! وما أعظمَ فضْلَ الله تعالى على عباده وأكملَ رحمته بهم؛ إذ شرَعَها لهم وفرضَها في أموالهم، وحثَّهم على أدائها، ودفَعَهم إلى المبادرة إلى أدائها بما أوْحَى بشأْنها من الترغيب والترهيب، فسبحان الحكيم العليم الرؤوف البَرِّ الرحيم!
16- والصدقة تنشرُ المودَّة بين المؤمنين، وتُؤصِّل المحبَّة في قلوبهم، فإنَّ بذْلَها من الأغنياء للفقراء وغيرهم من أصناف أهلها يدلُّ على عَطْفهم عليهم، ورقَّة قلوبهم نحوهم، ومودَّتهم لهم، ومحبَّتهم إيَّاهم؛ إذ الجود بالصدقة يدلُّ على ذلك، وينشأ عنه ذلك ويقوى بسببه، وكذلك فإنَّ النفوس جُبِلتْ على حُبِّ مَن أحسنَ إليها.
وقد وصَف الله تعالى خاصَّةَ أوليائِه بأنهم: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 54]، و: ﴿ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، وقال أيضًا: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71]؛ أي: يحبُّونهم وينصرونهم.
خطر منع الزكاة
شُؤم البُخْل بالزكاة على الشخص والمجتمع في العاجل والآجل
مَنْعُ الزكاة من كبائر الذنوب التي نَفَى الله عن أهلها الإيمان، وتوعَّدهم بألوان الوعيد، وتهدَّدهم بأنواع العذاب الشديد في الحياة وبعد الممات؛ من الهلاك في الدنيا والشقاء والخسران في الآخرة، فمنعُ الزكاة شُؤمٌ على مَن بَخِل بها وعلى المجتمع الذي يُقرُّه على ذلك ولا يُنكِر عليه سوءَ صنيعه، ومن ذلك:
أ- مَحْقُ المال وذَهابه بأنواع موجِبات الهلاك وأسباب التَّلَف؛ رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تَلِفَ مالٌ في بَرٍّ ولا بحر إلا بحبْس الزكاة" السلسلة الضعيفة (575)؛ رواه الطبراني عن عمر رضِي الله عنه وفي رواية: "ما خَالَطَتِ الزكاة مالاً قطُّ، إلا أهلكتْه" أخرجه الهيثمي (64/3).
ب- التعرُّض للعنة الله، وهي الطرْد عن مظانِّ الرحمة؛ رُوِي أنَّ النبي ﷺ لعنَ آكِلَ الربا، ومُوكِله، وشاهِدَيه، وكاتبه، والواشمة، والمستوشمة، ومانع الصَّدَقة. أخرجه أحمد في المسند
ت- وهو أيضًا من أوصاف المشركين، فالمانع للزكاة مُتَشَبِّهٌ بهم، ومَن تَشَبَّه بقومٍ، فهو منهم؛ قال تعالى: ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [فصلت: 6، 7].
ث- والبُخل بالزكاة من أَمَارات النِّفاق وموجِبَاته؛ قال تعالى في وصْف المنافقين: ﴿ وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]، وقال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 67، 68].
ج- ومنْع الزكاة من أسباب الْحِرمان من شفاعة النبي ﷺ كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ولا أُلْفِيَنَّ أحدَكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رُغاء" أخرجه البخاري (7174).
ح- الابتلاء بمنْع المطر والأخْذ بالسنين؛ عن بُرَيْدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما منَعَ قومٌ الزكاة، إلا ابتلاهم الله بالسنين" رواه الطبراني في الأوسط، ورواتُه ثِقات.
ورواه الحاكم والبيهقي ولفظُه: "ولا منَعَ قومٌ الزكاة، إلا حَبَس الله عنهم القطْرَ"، وقال الحاكم: صحيح على شرْط مسلم، ورواه البيهقي عن ابن عمر في حديث طويل، وفيه: "ولَم يَمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القطْرَ من السماء، ولولا البهائمُ لَم يُمْطَروا" أخرجه الهيثمي (65/3).
خ- التعرُّض لِمَا توعَّد الله به مَن بَخِل بها من العقوبة في الآخرة؛ فقد رَوى البخاري في صحيحه أن النبي ﷺ قال: "مَن أتاه الله مالاً، فلم يُؤدِّ زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعًا أقْرعَ له زبيبتان يُطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلِهْزِميه ـ يعني: شِدْقَيْه ـ ثم يقول: أنا مالُك"، ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آل عمران: 180] أخرجه البخاري (1403).
د- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "ما من صاحب كَنزٍ لا يؤدي زكاته إلا أُحْمِي عليه في نار جهنم، فيُجْعل صفائح، فيُكْوَى بها جَنباه وجَبِينه، حتى يحكمَ الله بين عباده في يوم كان مِقْدَارُه خمسين ألف سنة" أخرجه مسلم (987).
وفي الصحيحين عنه أيضًا عن النبي ﷺ قال: "ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدِّي منها حقَّها، إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحتْ له صفائح من نار، فأُحْمِي عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جَنْبُه وجَبهته وظهرُه، كلَّما بَرَدتْ أُعِيدتْ عليه في يوم كان مِقْدارُه خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله؛ إمَّا إلى الجنة، وإمَّا إلى النار" أخرجه مسلم (987).
وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: "ما من صاحب إبلٍ ولا بقر ولا غَنم، لا يؤدِّي زكاتها، إلا جاءتْ يوم القيامة أعظمَ ما كانتْ وأسمنَه، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدتْ أُخراها، عادتْ عليه أُولاها، حتى يُقضى بين الناس" أخرجه البخاري (1460).
المستحقون للزكاة
قسم الله تعالى الزكاة في مُحكم التنزيل، وأصدق القِيل، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
فبيَّن سبحانه في هذه الآية المحكمة مصارِفَ الزكاة وأهلَها المستحقِّين لها، وقسمَها بينهم بمقتضى عِلْمه وحِكْمته، وعَدْله ورحمته، ولَم يَكِلْ قسمتَها إلى مَلَكٍ مُقَرَّب، ولا نَبي مُرْسَل، ولَم يَجعلْها إلى اجتهاد أهل الأموال، ولا إلى من طَلَبها بالسؤال، بل جعلها سبحانه لأهل أوصاف معلومة، فمن انطبقَ عليه هذا الوصف، أُعْطِي منها ما لَم يمنعْ مانعٌ شرعي، فلا يحل لمؤمنٍ بالله واليوم الآخر أنْ يمنعَ هؤلاء حقَّهم الذي قسَمه الله لهم، ويُعطيها غيرَهم؛ فإنَّ الله تعالى أعلم بمصالح خَلْقه وأرحم بعباده: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 229].
وفيما يلي توضيح حال كلِّ صِنف:
الصنف الأول: الفقراء:
وهم الذين لا يَجِدون شيئًا، فليس لهم دخلٌ ثابت، لا من مِهْنة ولا وظيفة، ولا مُخصص من بيت المال وغيره، ولشدَّة حاجة هذا الصِّنف بدأ الله تعالى بهم؛ اهتمامًا بحالهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، فيُعطى الشخص من هذا الصِّنف من صَدقات المسلمين ما يَكفيه وأهل بيته لمدة عام؛ حتى يَجِدوا ما يُغنيهم إلى حين وقت الزكاة من العام الذي يَليه، وفي حديث معاذ رضي الله عنه أنَّ النبيَّﷺ قال - حين بَعَثه إلى اليمن - الحديث، وفيه: "إنَّ الله افترضَ عليهم صَدَقة، تؤخَذ من أغنيائهم وتُرَدُّ إلى فقرائهم" متفق عليه.
الصنف الثاني: المساكين:
وهم مَن لهم شيء لا يَكفيهم، فإن المسكين من أسكنتْه الحاجة، ولو كان له مِهنة أو عنده وسيلة كَسْبٍ، ما دام لا يَجِد منها ما يُغنيه؛ قال تعالى: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ﴾ [الكهف: 79].
فأخبر تعالى أنَّ لهم سفينة يعملون بها، وسَمَّاهم مساكين مع ذلك؛ لأنهم لا يَجِدون منها كفايتهم، فالمسكين الحقُّ هو مَن يُظَنُّ غناه وهو لا يجد ما يَكفيه، فيُعْطَى مثل هذا من صَدَقات المسلمين ما يُكمل كفايته الواجبة؛ مواساةً له وإعانةً على حاجته.
تنبيه:
ليعلم الأغنياء الرحماء أنَّ الفقراء والمساكين هم غالب أهْل الزكاة وأشدهم حاجة، فتجِب مواساتهم بما يَكفيهم ورعيَّتهم؛ حتى لا يضطروا للمسألة والإشراف لِمَا في أيدي الناس؛ فإنَّ المسألة بابُ فقْرٍ، وإنَّ الإشراف من موانع البركة؛ لِمَا روى الإمام أحمد عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أنَّ النبي ﷺ قال: "لا يفتح عبدٌ بابَ مسألة، إلا فتَحَ الله عليه بابَ فقْرٍ" أخرجه أحمد في المسند. وكما في الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال له: "إنَّ هذا المال خَضِرةٌ حُلْوة، فمن أخَذَه بسخاوة نفْسٍ، بُورِكَ له فيه، ومن أخَذَه بإشرافِ نفْسٍ، لَم يُبَارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكلُ ولا يَشبع" أخرجه البخاري (1472).
الصنف الثالث: العاملون عليها:
وهم الموظفون الذين يُعيِّنهم ولاةُ الأمر؛ لِجِبَاية الزكاة وإحصائها، وحِفْظها وصَرْفها في مصارفها، أو تسليمها لبيت المال، فيُعطَى هؤلاء من الزكاة بقَدْر وظيفتهم - وإنْ كانوا أغنياء - ما لَم يُخَصِّص لهم ولاةُ الأمور رواتبَ من بيت المال، فإنْ كان لهم رواتبُ من بيت المال، فلا نصيب لهم في الزكاة.
والواجب على مَن تحمَّل هذه المسؤولية أن يتَّقِي الله تعالى فيها، وأن يتفقَّه في أحكامها، وعليه أن يؤدِّي أمانتها، وأن يوصِّلها إلى أهلها، ويُعطيها مستحقِّيها كاملة طيِّبة بها نفسُه؛ حتى يُثَاب على ذلك ثوابَ المتصدِّقين؛ لما ثبَتَ في صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ النبي ﷺ قال: "الخازن الأمين الذي ينفق - ورُبَّما قال: الذي يُعطي - ما أُمِر به كاملاً موفَّرًا طيِّبةً به نفسُه، فيدفعه إلى الذي أمرَ له به أحدُ المتصدِّقين" أخرجه البخاري (2319).
وليحذر من الظلم للأغنياء بأخْذ أطيب أموالهم، وللفقراء بمنْعهم حقَّهم؛ فإنَّ النبي ﷺ قال لمعاذ رضي الله عنه وقد بعثَه على صَدَقات أهل اليمن: "خُذْ منهم، وإيَّاك وكَرَائم أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" متُفق عليه.
الصنف الرابع: المؤلَّفة قلوبُهم:
وهم السادة المطاعون في قومهم؛ لرياستهم وشرفهم فيهم، فيُعطون من الزكاة ما يُرْجَى به خيرهم وخير غيرهم، ويُدْفَع به شرُّهم وشرُّ غيرهم، وهم أنواع:
أ- فمنهم مَن يُعْطى مع حُسْن إسلامه، ولكن ليرغَبَ في الإسلام نظيرُه؛ كما أعْطَى النبي ﷺ الزبرقان بن بدر، وعَدِي بن حاتم مع حُسْن إسلامهما؛ رجاءَ أن يُسْلِمَ من كان على شَاكِلتهم.
ب- ومنهم قوم نيَّتهم في الإسلام ضعيفة، فيُعطون تقويةً لإيمانهم؛ كما ذَكَر أهْلُ التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال - في المؤلفة قلوبهم -: هم قومٌ كانوا يأتون رسولَ الله ﷺ فيرضخ لهم من الصَّدَقات، فإذا أعطاهم من الصدقة، قالوا: هذا دِينٌ صالح، وإنْ كان غير ذلك عابوه (انظر تفسير الطبري)، وكما ذَكَر أهل السِّيَر أن النبي ﷺ أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أُميَّة، والأقرع بن حابس، وعُيينة بن حِصْن، لكلِّ واحدٍ منهم مائة من الإبل. أخرجه مسلم (1060).
ج- قوم كفَّار يُعْطَون من الزكاة؛ تأليفًا ودَفعًا لشرِّهم؛ كما في الصحيحين أنَّ عليًّا رضي الله عنه بعثَ وهو باليمن بذُهَيْبَةٍ فقسمها رسول الله ﷺ بين عِدَّة نفرٍ؛ الأقرع بن حابس الحنظلي، وعُيينة بن حِصْن الفزاري، وعَلْقمة بن عُلاثة العامري، وزيد الخير الطائي، فغضبتْ قريش وقالوا: يُعطي صناديد نَجْدٍ ويَدعنا، فقال ﷺ: "إنما فعلتُ هذا لأتألَّفهم" أخرجه البخاري (3344)، وقال أبو عبيد القاسم بن سلاَّم: وإنما الذي يؤخَذ من أموال أهل اليمن الصدقة
وأعطى النبي ﷺ صفوان بن أُميَّة يوم حُنين قبل إسلامه؛ ترغيبًا له في الإسلام. أخرجه مسلم (2313)
الصنف الخامس: الرقاب:
وهم الأرقاء المكاتبون الذين اشتروا أنفسَهم من مُلاَّكهم، فيعطون من الزكاة ما يوفون به قِيمتهم؛ لتحرير أنفسهم، ويُصرف من الزكاة ما يُفَك به مسلمٌ أسير عند الكفار، وكذلك يجوز أن يُشْتَرى من الزكاة أرقَّاءُ مسلمون ويُعتَقُون؛ فإنَّ ذلك كلَّه مما يشمله عمومُ قوله تعالى: ﴿ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ [التوبة:٦٠].
الصنف السادس: الغارمون:
وهم الذين يتحمَّلون غرامات ماليَّة، وهم صنفان:
أ- صِنف تحمَّل دَينًا في ذِمَّته لحاجة نفسه، وليس عنده وفاءٌ، فيُعْطَى من الزكاة ما يوفِّي به دينَه، وإن كَثُر، أو يُعْطَى دائنه وفاءً عنه، فكلُّ ذلك خيرٌ؛ لِمَا فيه من بَرَاءة ذِمَّته وتنفيس كُربته.
ب- وصِنف تحمَّل حمالة وغرمًا لصالح غيره؛ لإصلاح ذاتِ البَيْن، وإطفاء الفتنة، فيُعْطَى من الزكاة بقَدْر حَمَالته توفيرًا لماله، إعانة له وتشجيعًا لغيره على هذا العمل الجليل والمعروف العظيم الذي تُزَال به الفُرْقة، ويَتحقق به الإصلاح وإزالة الأحْقاد.
ودليلُ ذلك ما ثبتَ عن قَبِيصة بن مُخَارق رضي الله عنه قال: تحمَّلْتُ حَمَالة، فأتيتُ النبي ﷺ أسأله فيها، فقال: "أقمْ يا قَبيصة حتى تأتينا الصدقةُ، فنأمر لك بها"، ثم قال: "يا قَبيصة، إنَّ المسألة لا تحلُّ إلا لأحدٍ ثلاثة: رجل تحمَّل حَمَالة، فيسأل حتى يؤدِّيها ثم يُمْسِك، ورجل أصابتْه جائحة اجتاحتْ مالَه، فحلَّتْ له المسألة؛ حتى يصيب سدادًا من عيشٍ، ورجل أصابتْه فاقَة؛ حتى يشهد ثلاثة من ذوي الْحِجا من قومه: لقد أصابتْ فلانًا فاقة، فحلَّتْ له المسألة؛ حتى يُصيب سدادًا من عيشٍ أو قوامًا من عيش" أخرجه مسلم (1044).
الصنف السابع: في سبيل الله:
وهو الجهاد الذي يُقصد به أن تكون كلمة الله هي العُليا، فيُعطَى المجاهد بهذه النيَّة من الزكاة - إذا لَم يكنْ له راتبٌ من بيت المال - ما يكفي مؤْنته وأهْلَه حالَ غَيْبته، وما يَشتري به عتَادَه وسلاحه وكافة ما يحتاج لجهاده؛ لِمَا في ذلك من إعلاء كلمة الله وإظهار دينه، وصيانة حُرمَات المؤمنين، ودَفْع أذى الكافرين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 190]، وقال سبحانه: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، وقال ﷺ: "مَن قاتَلَ لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" أخرجه البخاري (2810).
الصنف الثامن: ابن السبيل:
وهو المسلم المسافر الذي انقطَعَ به السفر؛ لنفاد نَفَقته أو فَقْدها، فيُعْطَى من الزكاة ما يوصِّله إلى بلده، وإنْ كان غنيًّا فيه، ولا يَلْزمه ردُّ ما أخَذه من الزكاة؛ لأنه حين أخذها كان من أهْلها.
زكاة الأوراق النقدية
تجب الزكاة في الأوراق النقدية المعاصرة - البنكنوت؛ لأنها بدلٌ عن الفضة، فتقوم مقامَها، فإذا بلغتْ نصابَ الفضة وجبَتْ فيها الزكاة؛ سواء كانتْ عنده أو دَينًا له عند مليء وفيٍّ من الناس، فإذا كان للإنسان من النقود الورقية قيمة 595 جرامًا من الفضة، أو ستة وخمسين ريالاً عربيًّا فضيًّا فأكثر، وجَبَتْ عليه الزكاة، فيُخْرِج رُبع عُشر - أي: 2,5 في المائة - ما عنده، فيكون الواجب عليه في ألف ريال مثلاً خمسة وعشرين ريالاً، وهكذا في سائر العُملات الورقيَّة الأخرى.
زكاة عُروض التجارة
وهي السلع المعدَّة للرِّبْح والكَسْب، عن طريق البيع والشراء؛ من عَقار وحيوان، وطعام وشراب، وأقمشة وملابس جاهزة، وآلات وغير ذلك مما يتَّجرُ به ممَّا هو مُبَاح؛ لعموم قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267]، ولحديث سَمُرَة رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يأمرُنا أن نُخْرِج الصدقة مما نعدُّه للبيع؛ رواه أبو داود بإسناد حسن.
فيدخل في ذلك الأراضي المعدَّة للبيع، والعمارات والسيارات، والمعدات الصناعية والزراعية، ومواد البناء والأجهزة، ونحوها من أصناف البضائع والأموال.
تجب الزكاة في قِيَم عُروض التجارة إذا حالَ عليها الحول، والواجب رُبع عُشر قيمتها - أي: اثنان ونصف في المائة - فينبغي لأهل الأموال أن يَجعلوا لهم موعدًا مُحَدَّدًا من السنَّة - كرمضان مثلاً - فيقوِّمون ما لَدَيهم من البضائع بما تساوي في ذلك الوقت؛ سواء كان ذلك الثمن مثل سعر شرائها، أو أقل أو أكثر، فيُخرجون رُبع عُشر القيمة زكاةً عن ذلك الطعام، وهكذا كل عام.
وينبغي لأهل محلاَّت السلع الدقيقة والمتنوعة كالبقالات، ومحلات قطع غيارات الآلات ومواد البناء ونحوهم، أن يحصوا ما في محلاتهم إحصاءً دقيقًا شاملاً للصغير والكبير، والدقيق والجليل، ويُخْرِجوا زكاتها وهي رُبع عُشر قيمة كلِّ ما في المحل، فإنْ شقَّ عليهم إحصاء ذلك، احتاطوا لذلك، فقوَّموه بما تحصل به براءةُ الذِّمَّة.
زكاة الخارج من الأرض
زكاة الخارج من الأرض من الحبوب والثمار ونحوها، ممَّا يُدَّخَر للقوت؛ لقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267]، وقوله سبحانه: ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141]، وأعظمُ حقوقه الزكاة.
ولا تجبُ الزكاة في الحبوب والثمار حتى يبلغ نصابًا، وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعًا نبويًّا؛ أي: ثلاثمائة صاعٍ نبويٍّ.
والصَّاع النبوي أربع حفنات من البُرِّ الجيِّد بكفَّي الرجل المتوسط اليدين؛ قال الداودي وغيرُه: معياره - يعني: الصاع - الذي لا يختلف أربع حفنات بكفَّي الرجل المعتدل الْخِلقة.
والصاع النبوي أقل من الصاع النجدي، بالخمس وخمس الخمس، فيكون مقدار النصاب بالصاع النجدي مائتين وثلاثين صاعًا تقريبًا.
والواجب فيه العُشر إنْ كان يُسقَى دون كُلفَة، كالذي يُزرَع على الأمطار والأنهار والعيون الجارية والآبار الارتوازية الفوَّارة بالماء؛ حيث يُسقَى دون آلاتٍ، أمَّا ما يُسقَى بكلفة آلات - كالنواضح والمكائن - فالواجب فيه نصف العُشر.
وتؤخَذ الزكاة من نفس ما وجبتْ فيه من الحبوب والثمار أو من نوعه، فإنَّ ذلك هو الأصل؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141]؛ أي: منه، وقوله: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [البقرة: 267]، فلا تخرج الزكاة إلاَّ منها أو من نَوعِها؛ لأنَّ الزكاة عبادة، والأصل في العبادات التوقيف من الشرع، ولَم يثبُتْ في الشرْع ما يدلُّ على جواز أخْذ القيمة عنها، فتعيَّن أخذُها من أعيان ما وجَبتْ فيه أو من نوعه دون قيمته.
أمَّا الخضروات، فلا تجب فيها الزكاة مطلقًا؛ لقول النبي ﷺ: "ليس في الخضروات صَدَقة"؛ رواه الدارقطني بإسناده عن علي رضي الله عنه، وعن عائشة رضي الله عنها مثله.
وروى الأثرم أنَّ عمر رضي الله عنه كتب إلى أحد عُمَّاله: ليس فيها - يعني: الفِرْسِك والرُّمَّان - عُشر - يعني: زكاة - هي من العضاه.
وليس في الفواكه والبطيخ ونحوها زكاة؛ لِمَا ثبتَ عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ليس في الخضروات صدقة"، وقول علي رضي الله عنه: "ليس في التفاح وما أشبهه صَدَقة".
ولأنها ليستْ بِحَبٍّ ولا ثَمَر، لكن لو باعَ الشخص ما لَدَيه من الفواكه والبطيخ والخضروات بنقودٍ وحال عليها الحول وهي عنده لَم يتصرَّف فيها، وقد بلغتْ نصابًا أو أكثر، ففيها زكاة الأوراق النقديَّة.
زكاة بهيمة الأنعام
بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والغنم من ضأْنٍ ومَعز.
سُمِّيت بهيمة؛ لِمَا في صوتها من الإبهام.
وتجب فيها الزكاة المقدرة أنصبتها بالسُّنَّة الثابتة عن النبي ﷺ فيها، إذا كانتْ مُتَّخَذَة للدرِّ والنَّسْل، وراعية في الحول أو أكثره؛ أي: غير معلوفة، وبلغتْ نصابًا.
وأقلُّ النِّصاب في الإبل خمس، وفيها شاة. و في البقر ثلاثون، وفيها تَبِيعٌ جَذَع، وهو ما له سنة. وفي الغنم أربعون، وفيها شاة.
فإنْ لم تكنْ سائمةً، فلا زكاة فيها، إلاَّ إن كانت للتجارة، وهي التي تُربَّى للتكسُّب بالبيع والشراء والمناقلة، فهي عُروض تجارة، تزكَّى زكاة العُروض؛ سواء كانت سائمة أم معلوفة إذا بلغتْ نصاب التجارة بنفسها أو إلى غيرها من الأموال الأخرى، فتُقَوَّم بما تساوي وقت إخراج الزكاة، ويُخرج ربُع عُشر قيمتها أو ما ضُمَّتْ إليه.
شرح زكاة الأثمان
(الذهب والفضة)
وتجب فيهما الزكاة؛ سواء كانا مضروبين - كالجنيهات الذهبيَّة والعُملات الفضيَّة - أو غير مضروبين، إذا بَلَغ ما يَملكه الشخص من أحدهما أو منهما نصابًا ومَضَى عليه الحول.
ونصاب الذهب عشرون مثقالاً؛ لقول النبي ﷺ: "ليس عليك شيء - يعني: زكاة - حتى يكون لك عشرون دينارًا" رواه أبو داود، والمراد به: الدينار الإسلامي الذي يبلغ وزنه مِثقالاً، والمثقال زنته حاليًّا: أربعة جرامات ورُبع، فيكون أقل ما تجب فيه الزكاة من الذهب - وهو النصاب - خمسة وثمانين جرامًا، وتساوي أحد عشر جنيهًا سعوديًّا ذهبيًّا وثلاثة أسباع الجنيه، فإذا كان عند الشخص من الذهب هذا القَدر أو أكثر ومَضَى عليه الحول، وجَبَتْ فيه الزكاة، ومقدارها رُبع العشر؛ أي: 2,5 في المائة.
وأمَّا نصاب الفضة، فهو خمسُ أواقٍ؛ لقوله ﷺ: "ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة" متفق عليه.
والأوقية: تساوي أربعين درهمًا إسلاميًّا فضيًّا، والدرهم الإسلامي يساوي سبعة أعشار المثقال، فيكون المجموع مائة وأربعين مثقالاً - وسَبَق أنَّ المثقال زِنته أربعة جرامات ورُبع - فيكون ما تجب فيه الزكاة من الفضة ما زنته خمسمائة وخمسة وتسعون جرامًا، وتساوي ستة وخمسين ريالاً عربيًّا فضيًّا، فإذا كان عند الشخص هذا القَدر أو أكثر ومَضَى عليه الحول، وجَبَتْ عليه الزكاة فيه، ومقدارها رُبع العُشر؛ أي: 2,5 في المائة.
زكاة الحُلِي
أمَّا الْحُلي المعدُّ للاستعمال من الذهب والفضة، ففي وجوب الزكاة فيه خلاف بين أهل العلم:
أ- فذهب جماعة من أهل العلم من المتقدِّمين ومن المعاصرين، ومنهم سماحة شيخنا ووالدنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله إلى وجوب الزكاة فيه؛ لعموم الأدلَّة الموجِبة للزكاة في الذهب والفضة من غير استثناء ولا تفصيل، وللأدلة الخاصَّة من السُّنة التي هي عندهم من قبيل الصحيح أو الحسن، وفيها دَلالة صريحة في وجوب الزكاة في حُلِي الذهب والفضة.
ومنها: أنَّ امرأة أتتِ النبي ﷺ ومعها ابنة لها وفي يدها مَسَكتان - سواران - من ذهبٍ، فقال النبي ﷺ: "أتؤدِّين زكاة هذا؟"، قالتْ: لا، قال: "أَيَسرُّك أن يسوِّرك الله بهما سوارين من نار؟"، فألقتهما إلى النبي ﷺ وقالتْ: هما لله ورسوله. أخرجه ابو داود (1563)، ولعدم المعارض الصحيح لهذه الأدلة، وإذا ثبَت الدليل وانتَفى المعارض، وجَبَ القول بما قام الدليل عليه.
ب- وذهَب الجمهور من أهل العلم، ومنهم الأئمة مالك والشافعي - في أحد قَوْلَيه - وأحمد وشيخ الإسلام ابن تيميَّة وابن القَيِّم، إلى أنه لا زكاة فيه ومن أدلَّتهم:
1- أنَّ الأصل براءة الذمة من التكليف ما لَم يَرِدْ دليلٌ شرعي صحيح، ولَم يثبتْ عِندَهم دليلٌ في وجوب زكاة الْحُلي؛ لا من نصٍّ صحيح ولا من قياسٍ على منصوص.
2- أنَّ الزكاة إنما تجبُ في المال النامي أو المعدِّ للنماء، والْحُلي ليس واحدًا منها؛ لأنه خرَجَ عن النماء بصناعته حُليًّا يُلبَس ويُستعمل ويُنتفَع به؛ فلا زكاة فيه، فهو كما يستعمل الإنسان لحاجته من مسكن ومركوب، وملابس وأثاث وسائر حاجته؛ لقول النبي ﷺ : "ليس على المسلم في عبده ولا في فَرَسه صدقة" أخرجه البخاري (1464)؛ قال النووي: هذا الحديث أصلٌ في أنَّ أموال القِنْيَة لا زكاة فيها، وهو قول علماء السلف والخلف.
3- ما روى ابن الجوزي - في التحقيق (196/1) - عن عافية بن أيوب عن الليث بن سعد عن ابن الزبير عن النبي ﷺ أنه قال: "ليس في الْحُلي زكاة"؛ قال ابن الجوزي: عافية بن أيوب لا أعلم به جرحًا، ونقَل ابن دقيق العيد عن شيخه المنذري، قال: لَم يبلغني فيه ما يوجِب تضعيفه، ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زُرعة رَحِمهم الله.
4- قول النبي ﷺللنساء - كما في صحيح البخاري -: "يا معشر النساء، تصدَّقْنَ ولو من حُلِيكُنَّ" أخرجه البخاري (1466).
قال ابن العربي: هذا الحديث يوجِب بظاهره أنْ لا زكاة في الْحُلي بقوله ﷺ للنساء: "تصدَّقْنَ ولو من حُلِيكُنَّ"، ولو كانت الصدقة فيه واجبة، لَمَا ضربنَ المثَل به في صدقة التطوُّع.
وقال سماحة مفتى الديار السعودية سابقًا الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في ترجيح قول الجمهور: والراجح عندنا أنه لا زكاة فيه، واستدلَّ بجملة أدلة، منها:
أ- حديث عافية بن أيوب السابق، وتَقْوِيَة ابن الجوزي له، وقول ابن أبي حاتم في عافية: لا بأْس، وأن في ذلك الردَّ على من ضَعَّفه.
ب- أنَّ زكاة الْحُلي لو كانتْ فرضًا - كسائر الصدقات المفروضة - لانتشرتْ فرضيَّتُها في زمن النبي ﷺ ولكان لها ذِكْرٌ في شيء من كتب الصدقات، وكل ذلك لَم يقعْ كما بيَّنه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم في كتاب الأموال.
ج- ما رواه الإمام أحمد أنَّه قال: خمسة من الصحابة كانوا لا يرون في الْحُلي زكاةً: عائشة، وابن عمر، وأنس، وجابر، وأسماء.
د- ثم ذكر قول الباجي في شَرْح الموطَّأ: هذا - أي: إسقاط زكاة الحلي - مذهبٌ ظاهرٌ بين الصحابة، وأعلم الناس به عائشة رضي الله عنها زوج النبي ﷺ ومَن لا يَخفى عليها أمرُه في ذلك، وعبدالله بن عمر؛ فإن أُخْته حَفْصة زوج النبي ﷺ وحُكْم حُلِيِّها لا يَخفى على النبي ﷺ ولا يَخفى عليها حُكمه فيه.
ثم قال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: وأمَّا من أوْجَبَ الزكاة في الْحُلي المعدِّ للاستعمال، فعمومُ صحيحِ ما استدلَّ به كحديث: "في الرقة رُبع العُشر" أخرجه البخاري (1454)، و"ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة"؛ لا يتناول الْحُلي كما بيَّنه الإمامان أبو عبيد القاسم بن سلاَّم في كتابه الأموال، وابن قُدامة في كتابه المغني؛ حيث ذَكَرَا أنَّ اسم الرقة لا يُطلَق عند العرب إلا على الدراهم المنقوشة، ذات السكة السائرة بين الناس، وأنَّ لفظ الأوراق لا يُطلق عندهم إلا على الدراهم، كل أوقية أربعون درهمًا، قلتُ: فالمراد النقود من الذهب والفضة.
وصريحُ ما استدلَّ به الموجِب لزكاة الْحُلي المعدّ للاستعمال كحديث: الْمَسَكتين، وحديث عائشة في: فَتَخات من الورق، وحديث فاطمة بنت قيس أنَّ النبي ﷺ قال: "في الحلي زكاة" أخرجه الدارقطني (107/2)
كلُّ ذلك يُعلم من تَتَبُّع كلام الشافعي وأحمد وابن حزم أنَّ الاستدلال به غير قوي؛ لعدم صحتها، ولا شكَّ أنَّ كلامَهم أولَى بالتقديم من كلام مَن حاول من المتأخِّرين تقوية بعض روايات ذلك الصريح.
ثم ختَم كلامَه رحمه الله بقوله: والحاصل أننا لا نرى زكاة الْحُلي المعدِّ للاستعمال للأدلة الصحيحة، وذلك قول مالك والشافعي في القديم.
قلتُ: وأحمد وأبي عُبيد وإسحاق وأبي ثور، ومَن تقدَّم ذِكرُهم من الصحابة، وكذلك من التابعين.
قلتُ: وممَّا استُدِلَّ به لمذهب الجمهور أيضًا في عدم وجوب الزكاة في الْحُلي أمور، منها:
1- حديث سَمُرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن نُخرِج الصدقة من الذي نعدُّه للبيع" أخرجه أبو داود (1562) فإنَّ الحديث صريحٌ عام في أنَّ الزكاة لا تجب إلا فيما يُعدُّ للبيع.
2- أنَّ الخلفاء الراشدين الأربعة لَم يصحَّ عن واحدٍ منهم القول بوجوب الزكاة في الْحُلي، وهم مجتمعون وراء النبي ﷺ وأخصُّ الناس به، وأعلمهم بأحواله وأقواله وفتاويه، وهم ولاة الأمرِ بعده، ولَم يُنقلْ عنهم - فيما ذَكَر أهلُ العلم - نصٌّ في إيجاب زكاة الْحُلي؛ لا في التأكيد عليه، ولا في أمْرِ العُمَّال بأخذه من الناس، ولا بتعزير مَن لا يُخرجها، مع أنَّ الصِّدِّيق رضي الله عنه جَدَّ في المطالبة بالزكاة وقال: "والله لو منعوني عِقَالاً أو عَنَاقًا كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتُهم عليه" أخرجه البخاري (1399)، فسكوتُه عن زكاة الْحُلي مع أنَّه عند غالب نساء الصحابة أو كُلهنَّ، وكذلك غيرهن، فلم يَرِدْ عنه فيه حرفٌ واحد، من أقوى الأدلة على أنه ليس فيه زكاة.
3- قلتُ: وهناك أمرٌ آخَر وهو أنَّ غالب النساء لا يَجِدْنَ ما يُخرجْنَه زكاةً عن حُلِيِّهنَّ، فتحتاج إلى أنْ تبيعَ بعضَ ما عندها من الحلي، والغالب بأقلِّ من قيمته بكثير (لأن المعروض غير المطلوب، ومعاملة الصاغة في هذا معروفة) أو إعادة صياغته؛ لتحصِّلَ ما تُخرجه زكاةً، أو تستجدي زوجها أو وليَّها، وفي هذا من الْحَرَج والمنَّة ما لا يَخفى، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج:٧٨]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة:١٨٥]، وإذا كانت المرأة؛ إما أن تزكِّي مع هذا الْحَرَج، أو تأْثَم، ورُبَّما يقول قائل: تَرْكُ النساء للتحلِّي خيرٌ لهنَّ، ولا يَخفى ما في ذلك، والله المستعان.
مسائل فقهية في الزكاة
الأولى: من كلام سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله قال:
الأصحُّ من أقوال العلماء جوازُ دَفْع الزكاة من العُروض، كالْحَبِّ والدقيق والكسوة إذا كانتْ أنفعَ للفقير؛ خشية أنْ يُنْفِق الدراهم إذا سُلِّمَتْ إليه في أشياءَ لا تنفعه؛ انتهى.
الثانية: إذا اشترى شخصٌ أرضًا بنيَّة التجارة ومَضَى عليها الحول، وجَبَتْ فيها الزكاة إذا بلغتْ قيمتها نصابًا، فإذا تَمَّ الحول نَظَر في قيمة الأرض، فإنْ كانت القيمة تبلغ نصابًا فأكثر، زكَّى قيمتها، والعِبرة بالقيمة ما تساويه وقتَ إخراج الزكاة، لا وقت شرائها.
الثالثة: وهكذا أسهمُ الأراضي في المساهمات؛ فإنها من عُروض التجارة، تجب فيها الزكاة إذا مَضَى عليها الحول، فتُقوَّم الحصة المملوكة بموجب المساهمة بما تساوي وقتَ إخراج الزكاة، فيزكِّي القيمة؛ فإنَّ الأصلَ في زكاة الحصة هو ما تبلغُه قيمتها عند تمام الحول من غير نظرٍ إلى قيمتها وقتَ الشراء.
الرابعة: ما أُعِدَّ للاستعمال من الأموال، كالسيارة والبيت، والأثاث والملابس، وحُلِي النساء - في قول الجمهور - والسلاح ونحو ذلك مما يُقْتَنى للحاجة، فليس فيه زكاة؛ فإن أموال القِنْيَة مشغولة بالحاجة الأصليَّة وليستْ نامِيَة، وكلٌّ منهما مانعٌ من وجوب الزكاة؛ فقد ثبَتَ في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ليس على المسلم في عبده ولا في فَرسه صدقة".
قال النووي رحمه الله تعالى: هذا الحديث أصلٌ في أن أموال القِنْيَة لا زكاة فيها، وهو قول العلماء من السلف والخلف، إلاَّ أبا حنيفة رحمه الله في الخيل، والحديث حُجَّة عليه.
وقال ابن هُبَيْرة رحمه الله: أجمعوا على أنَّه ليس في دور السكنى، وثياب البذلة، وأثاث المنزل، ودواب الخدمة، وسلاح الاستعمال؛ زكاةٌ.
الخامسة: ما يُؤجِّره الشخصُ؛ من أرضٍ أو منزل أو عمارة، أو سيارة أو دكان أو آلة ونحوها، فليس في هذه الأشياء ذاتها زكاة؛ لكونها أُعِدَّتْ للأجرة لا للبيع، وإنما تجبُ الزكاة في أجرتها إذا بلغتْ نصابًا ومَضَى عليها الحول قبل أن تُنْفَق؛ سواء كانتْ مُدَّخَرة للنفقة أو للزواج أو لشراء عقار، أو لقضاء دَينٍ أو لغير ذلك من المقاصد؛ لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في مال المسلم إذا بلَغَ نصابًا أو أكثر ومَضَى عليه الحول، والواجب فيه رُبع العُشر، وقَدره اثنان ونصف في المائة، أما ما أنْفَقَه المؤجِّر في حاجته قبل الحول، فلا زكاة فيه.
السادسة: زكاة أموال اليتامى والمجانين:
تجبُ الزكاة في أموال اليتامى والمجانين، ومن بلغوا سنَّ التخريف ونحوهم من المسلمين، إذا كانوا أحرارًا تَامِّي المُلْكِ عند جمهور العلماء، فيُخْرجها عنهم أولياؤهم وأوصياؤهم، وهو قول علي وابن عمر وجابر، وعائشة والحسن بن علي رضي الله عنهم إذا بلغتْ نصابًا وحال عليها الحول؛ لِعُموم الأدلَّة، مثل: قول النبي ﷺ في حديث معاذ رضي الله عنه في الصحيحين حين بعَثَه إلى اليمن: "فأعْلِمهم أنَّ الله افترض عليهم صَدَقة في أموالهم، تُؤخَذ من أغنيائهم، وتُردُّ في فقرائهم".
ولِمَا ورَدَ في خُصوص ذلك في غير الصحيحين، كما روى الدارقطني مرفوعًا إلى النبي ﷺ قال: "مَن وَلِي مالَ يتيمٍ، فليتَّجِر به، ولا يتركه حتى تأكلَه الصدقة" أخرجه الترمذي (636).
ولِمَا روى مالك في الموطأ عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أنه قال: "كانتْ عائشة رضي الله عنها تَليني وأخًا لي يتيمين في حِجْرها، فكانتْ تُخرِج من أموالنا الزكاة " أخرجه مالك في الموطأ (251/1).
السابعة: زكاة الراتب الشهري:
الشخص الذي يُوفِّر من دَخْله الشهري قَدرًا معيَّنًا، فيحفظه في صندوقه، أو يُودِعه لدى شخصٍ أو جهة حاليَّة، فإنَّه يتعيَّن عليه إخراجُ الزكاة عن كلِّ قدر يَمضي عليه الحول إذا كان نصابًا، أو يَضمُّه إلى القَدر الذي يَلِيه، والأوْلَى أن يجعلَ له وقتًا مُعَيَّنًا من السَّنة، كرمضان مثلاً، فيخرج فيه زكاة الجميع؛ ما مَضَى عليه الحول على وجْهه، وما لَم يَمضِ عليه الحول يكون من باب تعجيل الزكاة قبل حولها، وذلك ثابتٌ بالسُّنة، وفي ذلك من براءة الذِّمَّة، والاحتياط للدِّين، واغتنام شرف الزمان، ما لا يَخفى.
الثامنة: هل على الغني المدين زكاة؟
كون الإنسان عليه ديون لا يُسقِط الزكاة عنه فيما بين يديه من أموال في أصحِّ أقوال أهل العلم، لكن لو سدَّدَ مَن عليه الديون ديونَه من ماله الذي بين يديه قبل تمام الحول، فلا زكاة عليه فيما صَرَف من المال لقضاء دينه، وإنما تجبُ الزكاة فيما بَقِي بين يديه من مالٍ بعد قَضاء الدَّين إذا كان نصابًا وتَمَّ حوله، وكان عثمان رضي الله عنه يأمرُ مَن عليه دينٌ أنْ يُسَدِّد دينَه قبل حلول الزكاة.
التاسعة: زكاة الديون:
وهي ما يكون للشخص في ذِمم الناس، وفيها تفصيل:
أ- فما كان منها على أغنياء يوفون، وجبَتْ زكاته عند تمام الحول، ولو كان في ذِممهم؛ لأنَّه كالمال الذي في الصندوق، فإذا قبَضَه يزكِّيه عمَّا مَضَى عليه؛ سواء مَضَى عليه سنة أو أكثر، وإن زكَّاه قبل قَبْضِه، فهو حَسَنٌ؛ لِمَا فيه من الإسراع ببراءة الذِّمة والمواساة للفقراء.
ب- ما كان من الدَّيْن على مُعسِرٍ، أو غائب منقطع خبرُه، أو مُماطل يَصْعُب استخراجه منه، لكن يؤمّل تحصيلُ المال ولو بعد سنين، فلا زكاة على هذا الدَّيْن؛ حتى يَقبِضَه صاحبُه، فإذا قَبضَه زكَّاه عن سنة واحدة فقط، وهي سنة قَبْضه، وليس عليه فيما قبلها من السنين على الصحيح.
ت- أمَّا الدَّيْن الذي لا يُؤمّل تحصيلُه - كالمسروق والمغصوب والمجحود - فأقرب للصواب أنه لا زكاةَ فيه؛ لأنه غير مقدورٍ على الانتفاع به، والزكاة لا تجبُ في أموال لا يُدْرَى هل تحصَّل أو لا.
العاشرة: أقوى الروايتين في المذهب - مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهو الراجح من حيث الدليل - أنَّ الدَّيْن لا يمنع زكاة الأموال الظاهرة، كالزروع والثمار، والماشية والبضائع ونحوها؛ وذلك لأنه لَم يَرِدْ عن النبي ﷺ أنه أمَرَ عُمَّاله بأنْ يستفسروا من أهل الأموال الظاهرة ممَّن تجبُ عليه الزكاة: هل عليهم ديونٌ تُنقص نصابَها؟ وكذا لَم يَرِدْ عن عُمَّاله رضي الله عنهم الاستفسارُ من أهل الزكاة عن ذلك.
الحادية عشرة: هل يسقط الدَّيْن عن المعسِر واحتسابه من الزكاة؟
إذا كان لك دَيْنٌ على شخصٍ قد تأخَّر عن تسديده حتى استيئَسْتَ منه:
1- فذَهَب جماعة من أهل العلم - وهو الراجح إنْ شاء الله - إلى أنه لا يجوز لك أن تسقطَه عنه، وتحتسبَه من زكاتك؛ وذلك:
أ- لأن في ذلك وقاية لمالِكَ؛ حيث اتخذتَ إسقاط هذا الدَّيْن الذي لَم تُحَصِّله ذريعة لمنْع ما يجب عليك إخراجُه من مالك، لكن لو أُعْطِي الفقير نصيبَه من الزكاة فردَّه على مَن أعطاها إيَّاه وفاءً لدَيْنه، جازَ ذلك.
ب- ولأنَّ الزكاة مالٌ يُدْفَع للفقراء لفَقْرهم وحاجتهم الحاضرة، وإسقاط الدَّيْن لا يحصل به مواساتهم في الحاجة القائمة الحاضرة.
ج- ولأن الزكاة شعيرة تظهر بالأخْذ والإعطاء، قال تعالى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾ [التوبة: 103]، وقال النبي ﷺ في حديث معاذ: "إنَّ الله افترضَ عليهم صدقة تؤخَذ من أغنيائهم، فتردُّ في فقرائهم"، وإسقاط الدَّيْن ليس أخذًا ولا إعطاء ولا ردًّا، فلا يحصل به إظهارُ الشعيرة.
د- ولأنَّ الدَّيْنَ أقلُّ في النفس من الحاضر وأدْنَى، فيُشْبه أن يكون أداؤه كأداء الرديء من المال بدلاً عن الجيِّد؛ فإن ما في ذِمَّة الغير دَينٌ غائبٌ لا يتصرَّف فيه، فلا يجزئ عن مال حاضر يُمكن التصرُّف فيه والانتفاع به وقتَ الحاجة.
2- وذَهَب بعضُ أهل العلم إلى أنَّ للدائن أنْ يُسقِطَ ما أمكن من الدَّيْن عن المدِين ويَحسبه من الزكاة؛ لِمَا فيه من نفْع المدين بإبراء ذِمَّته ورَفْع الْحَرَج عنه.
الثانية عشرة: متى تؤخَذ الزكاة من ذكور البهائم؟
حيث ذُكرتِ الشاة في أنصبة زكاة بهيمة الأنعام، فالمراد بها الأنثى من الضأْن والْمَعز، ويُجزئ من الضأْن الْجَذعة، وهي ما لها ستة أشهر ودخلتْ في السابع، ومن الْمَعز الثنيَّة، وهي ما تمَّ لها سنة ودخلتْ في الثانية، ولا يجزئ إخراجُ الذَّكَر في زكاة الغنم والإبل إلا في موضعين:
أحدهما: إذا كان النصاب كلُّه ذكورًا.
الثاني: إجزاء ابن اللبون، وكذا الْحِقُّ والْجَذع عن بنت مَخَاض.
الثالثة عشرة: الخلطة في المال:
الخلطة في الماشية التي تُصيِّر المالَيْن كالمال الواحد في الزكاة هي خلطة الأعيان، ويُشْترط لها - إضافةً إلى شروط وجوب الزكاة - مُضِيُّ الحول على الخلطة، واتِّحاد المراح والمسرَح، والمشرَب والْمحْلَب، والراعي والفَحْل.
الرابعة عشرة: هل تُؤخَذ الزكاة من جنس الأموال الزكوية أو تؤخذ القيمة؟
زكاة الزروع والثمار والماشية ونحوها من الأموال الظاهرة تؤخَذ من جِنْسها، ولا يجوز إخراج القيمة عنها؛ لأن أخْذَ الجنس:
أ- هو السُّنة الثابتة المستفيضة عن النبي ﷺ التي كان يأمر بها عُمَّاله، وروى أبو داود وغيره أنَّ النبيَّ ﷺ قال لمعاذ: "خُذ الْحَبَّ من الْحَبِّ، والشاة من الغَنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر" أخرجه أبو داود (1599)، والحجَّة في عمل النبي ﷺ .
ب- وهو الذي دَرَج عليه المسلمون خلفًا عن سلف، وذلك شرْعٌ وفرْضٌ بلا ريب.
ج- أنَّ أخْذ القيمة - مع كونه ليس له مستندٌ من الأثر - يُفضِي إلى أن تكون الزكاة شبه الْجِزْيَة والضرائب، وأنْ تُنسَى المقادير الشرعية والزكوات النبويَّة، وبذلك تخفى تلك الشعيرة العظيمة.
د- أنَّ الذين جوَّزوا أخْذ القيمة عن الجنس من تلك الأموال الظاهرة جوَّزوه بشرط أنْ تكون المصلحة ظاهرة في ذلك لحظِّ مَن وجبتْ له، أو أن يكونَ في إلزام من وجبتْ عليه بالعين مشقَّة، مثل: أن يكونَ ما وجَبَ عليه ليس عنده، وذلك يعني أن تجويزَ القيمة - ممَّن جوَّز أخْذَها من أهل العلم - في أحوالٍ استثنائيَّة وقضايا معيَّنة، لا أنْ يكون شريعة عامَّة ومنهجًا مستمرًّا، ولا شك أنَّ الحجة في عمل النبي ﷺ وما كان عليه خلفاؤه الراشدون، وفي الحديث: "دَعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك" أخرجه أحمد في المسند (200/1).
الخامسة عشرة: زكاة الأموال الموقوفة:
أ- إنْ كانتْ على أشخاص مُعيَّنين وبلَغَ نصيبُ الواحد منهم نصابًا، وجَبَتْ فيها الزكاة، يُخرجُها مالكُه أو يخرجها وليُّه بنيَّة الزكاة، ولا تُجزِئ من غير نيَّة؛ لقوله ﷺ: "إنما الأعمال بالنيَّات" أخرجه البخاري (1).
ب- وإنْ كانتْ على غير مُعيَّنين - كالموقوف على الفقراء أو على أعمال الخير، كبناء المساجد والمدارس الخيريَّة وما يوصِي به الميِّتُ من تَرِكَته، كالثُلث والرُّبع ونحوهما في وجوه البِرِّ - فلا زكاة في هذه الأموال؛ لانتفاء الْمِلْك فيها؛ لأنها وقْفٌ، ومصرفُها كلُّها في بِرٍّ وفِعل خيرٍ.
السادسة عشرة: حكم إعطاء الأقارب الزكاة:
أ- الزكاة تُدْفَع إلى أهلها الذين سَمَّاهم الله في قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [التوبة: 60]، ولو كانوا من القرابة الذين لا تجب على المزكي نفقتهم؛ حيث إنَّهم ليسوا من أصوله ولا فروعه، أمَّا الوالدان والأجداد وإنْ علَوا، والأولاد ذكورًا وإناثًا وإنْ نزلوا، فإنها لا تُدْفَع إليهم الزكاة، ولو كانوا فقراء، بل يلزم الشخص أنْ يُنْفِقَ عليهم من ماله من غير الزكاة، فكل مَن يَرِثه المزكِّي بالفَرْض لا يجوز أن يَدْفَعَ إليهم زكاته من أصوله وفروعه.
ب- أمَّا سائر الأقارب الفقراء الذين لا يَرِثهم المزكِّي بالفرض - كالأخ الفقير، والأخت الفقيرة، والعم الفقير، والعمَّة الفقيرة - فيُعطيهم من زكاته إذا لَم يُمكن أنْ يواسيهم من ماله إذا كانتْ حاجتهم أشد من غيرهم، ولَم يكنْ في إعطائهم من الزكاة مُحَاباةٌ لهم، وتخصيصٌ لهم دون مَن هو أحقُّ منهم من الأباعد؛ فإنَّ الصدقة على القريب المحتاج الذي لا يَرِثه المزكِّي صدقة وصِلَة؛ لقول النبي ﷺ: "الصدقة في المسكين صَدَقة، وعلى ذي الرَّحِم صدقة وصِلَة"[9].
السابعة عشرة: الاجتهاد في تحرِّي أهل الزكاة:
الزكاة لا تنفَع ولا تَبْرَأ بها الذِّمَّة؛ حتى توضَعَ في الموضع الذي وضَعَها الله فيه، مثل: ذَوِي الحاجة من الفقراء والمساكين، والغارمين الذين عليهم ديون أثْقلتْ كاهِلَهم ولا يستطيعون سدادَها، وإسعاف ابن السبيل المنقطِع؛ لنفادِ ماله أو أخْذه منه بسرقةٍ أو قَهْرٍ ونحو ذلك، فإنَّ هؤلاء من المكروبين والمعسِرين، وتنفيس كُربة المؤمن والتيسير على المسلم المعسِر له موقع عند الله تعالى وثوابه عليه سبحانه.
فينبغي تحرِّي أهلها بعناية واجتهاد؛ حتى تَقَع موقعها؛ فإنَّ الله تعالى قسم الصَّدَقات بنفسه في قوله: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].
لكن إذا اجتهَدَ الشخص في التحرِّي للأحقِّ بصَدَقته، ثم أعطاها شخصًا يغلبُ على ظنِّه أنه مستحقٌّ لها، فتبيَّن أنه فيما بعد غير مستحقٍّ، أجزأتْ عنه، والإثم على مَن أخَذَها، فالله خَصْمه يوم القيامة؛ حيث أخَذ ما لا يستحقُّ، وقطَعَ الطريق على مَن يستحقُّ.
الثامنة عشرة: نوع ما يخرج من الزكاة:
ينبغي للمزكِّي أنْ ينتقي من المال أحلَّه وأطيبه، وأجودَه وأحبَّه إليه؛ فإنَّ الله تعالى طيِّب لا يَقْبل إلا طيِّبًا، وقد قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ﴾ [البقرة: 267]، وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92].
ومما يُعينه على ذلك أن يتذكَّر أمرين:
أحدهما: حقُّ الله تعالى فيُعظِّمه بإخراج الطيِّب؛ تقرُّبًا إليه وطَمعًا في القَبول والمضاعَفة؛ فإنَّ الله تعالى إنما يتقبَّل من المتَّقِين.
الثاني: أنْ يعلمَ أن ما يقدِّمه من الصدقة سيجده يوم القيامة؛ فليقدِّم ما يَسرُّه وما يَطمع أنْ تَرْجَحَ به موازينُه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 272].
التاسعة عشرة: الأحق بالزكاة:
ينبغي أنْ تُعطي زكاتك مَن يغلب على ظنِّك أنه أحوجُ من غيره وأفضلُ من أصناف أهل الزكاة، وتراعي في ذلك حقَّ الجار والرَّحِم، والفضْل في عِلْمٍ أو جهاد واستقامة ونحو ذلك، فكلَّما كانتِ الصدقة أعونَ على طاعة الله، كان ذلك أحرَى بزيادة الثواب وعِظَم الأجْر.
العشرون: نقْل الزكاة من بلدِ المال إلى بلدٍ آخرَ:
لا تُنقَل الزكاة من بلد المال إلى بلد آخرَ؛ فأهل البلدة من أصناف أهل الزكاة أحقُّ بزكاة بلدهم، ومن أدلَّة ذلك قوله ﷺ لمعاذ وقد بعَثَه إلى اليمن: "فأخبرهم أنَّ الله افترضَ عليهم صدقة من أموالهم، تؤخَذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم".
لكن لو كان غيرُهم أحوجَ منهم، فلا بأسَ بنقْلِها، وهكذا نقْلُها لبيت المال ونحو ذلك، لكن ينبغي ألاَّ تُنْقَل كلها - لو ترجَّح نقْلُها - فإنَّ الإنسان أعرفُ بأهل بلده، وإعطاؤها مَن يطمئن إلى حاجته أوْلَى، والبلد أيضًا لا تَخلو من ذي الرَّحِم والجار من الفقراء ونحوهم، وحقُّهما لا يَخفى، ولا سيَّما وهما ينتظران الحول؛ ليُصِيبا من زكاتك.
وكتبه:
الشيخ عبدالله القصيّر
رحمه الله
لتحميل المقال PDF
تعليقات
إرسال تعليق